دقيق (دبي) – ليس غريبًا عن أحد ان حركة الترجمة كانت إحدى العوامل المهمة التي لعبت دورًا مهمًا في ازدهار الحضارة الاسلامية وتشكيلها، حيث سهلت نقل مختلف العلوم الى العربية عبر عصور، الأمر الذي مهد الطريق أمام العلماء المسلمين للاستفادة من علوم الحضارات الأخرى فضلًا عن تطويرها والبناء عليها.
وبفضل تشجيعٍ الإسلام لطلب العلم وحثه الأفراد على التسامح إزاء الديانات الأخرى وتحفيزهم على البحث عن المعرفة فقد أدى ذلك إلى اطلاع المسلمين على جزء كبير من الثقافات التي التقوا بها ولم يكن هناك سبيل إلى معرفتها إلا بترجمة إنجازاتها المعرفية.
وقد بدأ الاهتمامُ بالترجمة من عهد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إذ أرسل خطاباتٍ بالعربية إلى ملوك العالم وقادته في عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام، مثل كسرى في فارس، وهرقل قيصر الروم، والنجاشي في الحبشة، ولغاتهم ليست عربية وأرسل معها مترجمين يتقنون لغات من أرسلوا إليهم. وبهذا ترجع حركة الترجمة إلى صدر الإسلام في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبتكليف منه، فنقل الصحابة رضوان الله عليهم عن السول عليه الصلاة والسلام: “من عرف لغة قوم أمن شرهم”. ومن أشهر المترجمين في عهد الرسول هو زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي تعلم السريانية وكذلك الفارسية والرومية والعبرية.
وحصلت الترجمة على المزيد من التحفيز خلال أوائل العصر الأموي، حيث تشكلت الجذور الأولى لحركة الترجمة إلى العربية مع الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان الذي كان محبًّا للاطلاع على سياسات الملوك وسيرهم، وكان لديه مَن يَنسخون له الكتب التي يبدو أنها كانت مترجمة عن اللغات اليونانية واللاتينية والصينيَّة.
ثم جاء خالد بن يزيد بن معاوية بن سفيان المتوفى سنة 85هـ وله اهتمام بالطِّبِّ والكيمياء مرسلًا إلى الإسكندرية في طلب بعض الكتب في الطب والكيمياء لترجمتها إلى العربية، وكان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة وربما يعدَّه بعض الباحثين المؤسسَ الأول الذي وضع حجر الأساس لظاهرة النقل والترجمة في العالم الإسلامي. ومن هنا يمكن القول بأنَّ حركة الترجمة العلميَّة بدأت في هذا العهد في القرن الأول من الهجرة.
استمرت حركة الترجمة من وإلى العربية بالانتشار في العصر العباسي في عهد أبو جعفر المنصور في بداية الخلافة العباسية، حيث ترجمت في عهده الكثير من كتب الطب والعلوم والآداب المختلفة، كابن المقفع الذي ترجم “كليلة ودمنة ” من الأدب الفارسي ولتنتشر بعد ذلك ترجمات لكتب يونانية وهندية وسريانية. شهدت حركة الترجمة بعد ذلك قفزة كبيرة في عهد هارون الرشيد والمأمون، الذي أحدث نُقلةً كبيرةً في مجال الترجمة عن اللغات المختلفة في العديد من المجالات ونقلت خلال عهديهما العلوم والآداب السريانية والفارسية واليونانية إلى العربية، واكتسبت اللغة العربية مكانة مرموقة ولتصبح بعدها لغة العلم والفلسفة والأدب.
لم يلبث المسلمون أن انطلقوا إلى عالم الإبداع في كل الفنون والعلوم، ونجحوا في إقامة حضارة أصبحت الأعظم على مدى عشرة قرون، وإلى هذه النقلة الحضارية يشير ياسين خليل في كتابه (التراث العلمي العربي)، فيقول: إن مكانة التراث العلمي العربي تتعيَّن باتجاهين:
الأول: بما حقَّقه العرب مِن تراجم ونقل من لغات أمم أخرى إلى اللغة العربية، فحفِظوا بذلك تراثًا ضخمًا من العلم.
الثاني: بما أضافه العرب وابتكروه من وسائل ومعارف وعلوم جديدة في جميع حقولِ المعرفة الإنسانية والرياضية والطبيعية والهندسية والتكنولوجية وغيرها؛ مما كان له أبلغ الأثر في النهضة الأوروبية، وبالتالي ترجمت مؤلَّفات العلماء العرب إلى مختلف اللغات، وتعرَّف عليها المفكِّرون والعلماء، فأفادوا منها في تطوير العلم والانتقال به إلى مرحلة جديد.
نفتخر في دقيق بأن نكون شركة تتبع تراث أسلافنا في الترجمة.
No comments yet.